فصل: الآية رقم ‏(‏187 ‏:‏ 189‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏187 ‏:‏ 189‏)‏

‏{‏ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ‏.‏ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ‏.‏ ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ‏}‏

هذا توبيخ من اللّه وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ اللّه عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله اللّه تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئس الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئاً، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار‏)‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ الآية، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا، كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده اللّه إلى قلة‏}‏ وفي الصحيحين أيضاً‏:‏ المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور‏)‏

وقد روي أن مروان قال لبوابة‏:‏ اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له‏:‏ لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعين‏!‏‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ ما لكم وهذه، وإنما نزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس‏:‏ ‏{‏وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون* لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ الآية، وقال ابن عباس‏:‏ سأله النبي صلى اللّه عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه ‏"‏رواه أحمد وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي‏"‏وفي رواية عن أبي سعيد الخدري‏:‏ أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإذا قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزل‏:‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا‏}‏ الآية ‏"‏أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري‏"‏

وقد روى ابن مردويه عن محمد بن ثابت الأنصاري أن ثابت بن قيس الأنصاري قال‏:‏ يا رسول اللّه والله لقد خشيت أن أكون هلكت، قال‏:‏ لّم‏؟‏ قال‏:‏ نهى اللّه المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد، ونهى اللّه عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال، ونهى اللّه أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة‏)‏ فقال‏:‏ بلى، يا رسول اللّه، فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب‏}‏ أي لا تحسب أنهم ناجون من العذاب، بل لا بد لهم منه، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه ملك السموات والأرض، واللّه على كل شي قدير‏}‏ أي هو مالك كل شيء، والقادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء، فهابوه ولا تخالفوه، واحذروا غضبه ونقمته، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه، القدير الذي لا أقدر منه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏190 ‏:‏ 194‏)‏

‏{‏ إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ‏.‏ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ‏.‏ ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ‏.‏ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ‏.‏ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ‏}

معنى الآية إن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض‏}‏ أي هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انفخاضها وكثافتها واتضاعها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العيظمة من كواكب سيارات، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والراوئح والخواص، ‏{‏واختلاف الليل والنهار‏}‏ أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا ويقصر هذا، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً، ويقصر الذي كان طويلاً وكل ذلك تقدير العزيز العليم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لأولي الألباب‏}‏ أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون، الذين قال اللّه فيهم‏:‏ ‏{‏وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون‏}‏ ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم‏}‏ كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك‏}‏ أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم، ‏{‏ويتفكرون في خلق السموات والأرض‏}‏ أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالف وقدرته وحكمته واختياره ورحمته‏.‏ وقال الداراني‏:‏ أين لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت للّه علي فيه نعمة ولي فيه عبرة، وعن الحسن البصري أنه قال‏:‏ تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وقال‏:‏ الحسن‏:‏ الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك‏.‏

وعن عيسى عليه السلام أنه قال‏:‏ طوبى لمن كان قيله تذكرا، وصمته تفكراً، ونظره عبراً‏.‏ وقال مغيث الأسود‏:‏ زوروا القبور كل يوم تفكركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المصرف بالفريقين إلى الجنة أوالنار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها، وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه‏.‏ وقال ابن المبارك‏:‏ مرّ رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال‏:‏ يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر‏:‏ كنز الرجال، وكنزل الأموال‏.‏ وعن ابن عمر‏:‏ أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول‏:‏ أين أهلك‏؟‏ ثم يرجع إلى نفسه فيقول‏:‏ ‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏ وقال بعض الحكماء‏:‏ من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة‏.‏ وقال بشر الحافي‏:‏ لو تفكر الناس في عظمة اللّه تعالى لما عصوه، وعن عيسى عليه السلام أنه قال‏:‏ يا ابن آدم الضعيف اتق اللّه حيث ما كنت، وكن في الدنيا ضعيفاً، واتخذ المساجد بيتاً، وعلم عينيك البكاء، وجسدك الصبر وقلبك الفكر، ولا تهتم برزق غد‏.‏ وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي اللّه عنه أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك، فقال‏:‏ فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها‏.‏ ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر، إن فيها مواعظ لمن ادكر‏.‏

وقد ذم اللّه تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال‏:‏ ‏{‏وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون* وما يؤمن أكثرهم باللّه إلا وهم مشركون‏}‏ ومدح عباده المؤمنين‏:‏ ‏{‏الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض‏}‏، قائلين‏:‏ ‏{‏ربنا ما خلقت هذا باطلا‏}‏ أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً، بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى، ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل، فقالوا‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً‏.‏ ‏{‏فقنا عذاب النار‏}‏ أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل؛ يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم، وتجيرنا به من عذابك الأليم، ثم قالوا‏:‏ ‏{‏بنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته‏}‏ أي أهنته وأظهرت خزيهه لأهل الجمع، ‏{‏وما للظالمين من أنصار‏}‏ أي يوم القيامة لا مجير لهم منك، ولا محيد لهم عما أردت بهم، ‏{‏ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان‏}‏ أي داعياً يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم، ‏{‏أن آمنوا بربكم فآمنا‏}‏ أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه أي بإيماننا بنبيك، ‏{‏ربنا فاغفر لنا ذنوبنا‏}‏ أي استرها، ‏{‏وكفر عنا سيئاتنا‏}‏ فيما بيننا وبينك، ‏{‏وتوفنا مع الأبرار‏}‏ أي ألحقنا بالصالحين، ‏{‏ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك‏}‏ قيل‏:‏ معناه على الإيمان برسلك، وقيل‏:‏ معناه على ألسنة رسلك، وهذا أظهر ‏{‏ولا تخزنا يوم القيامة‏}‏ أي على رؤوس الخلائق، ‏{‏إنك لا تخلف الميعاد‏}‏ أي لا بد من الميعاد الذين أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك‏.‏

وقد ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه اللّه، عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع أهلة ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ الآيات، ثم قام فتوضأ واستن، ثم صلى إحدى عشرة ركعة، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح‏.‏ وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء، وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏ إلى آخر السورة، ثم قال‏:‏ ‏(‏اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن بين يدي نوراً، ومن خلفي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً وأعظم لي نوراً يوم القيامة‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه عن ابن عباس‏"‏‏.‏

وعن عطاء قال‏:‏ انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي اللّه عنها، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب، فقالت‏:‏ يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا، قال‏:‏ قول الشاعر زر غباً تزدد حباً ، فقال ابن عمر‏:‏ ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏!‏‏؟‏ فبكت وقالت‏:‏ كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال ‏(‏ذريني أتعبد لربي عزّ وجلّ‏)‏، قالت، فقلت‏:‏ واللّه إني لأحب قربك، وإني أحب أن تعبد ربك، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته، ثم سجد فبكى حتى بلّ الأرض، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح، قالت، فقال‏:‏ يارسول اللّه ما يبكيك وقد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل اللّه عليّ في هذه الليلة‏:‏ ‏{‏إن في خلق السموات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيات لأولي الألباب‏}‏‏(‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها‏)‏ ‏"‏رواه ابن مردويه وعبد بن حميد‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏195‏)‏

‏{‏ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم‏}‏ أي فأجابهم ربهم كما قال الشاعر‏:‏

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب

عن أم سلمة قالت‏:‏ يا رسول اللّه، لا نسمع اللّه ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى‏}‏ إلى آخر الآية، وقالت الأنصار هي أول ظعينة قدمت علينا، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم، عقب ذلك بفاء التعقيب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى‏}‏ هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبراً أنه لا يضيع عمل عامل لديه، بل يوفى كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى، وقوله‏:‏ ‏{‏بعضكم من بعض‏}‏ أي جميعكم في ثوابي سواء، ‏{‏فالذين هاجروا‏}‏ أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران، ‏{‏وأخرجوا من ديارهم‏}‏ أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجأوهم إلى الخروج من بين أظهرهم، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وأوذوا في سبيلي‏}‏ أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا باللّه ربكم‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقاتلوا وقتلوا‏}‏ وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل اللّه فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول اللّه ‏!‏ أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، أيكفر اللّه عني خطاياي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏كيف قلت‏)‏‏؟‏ فأعاد عليه ما قال، فقال‏:‏ ‏(‏نعم، إلا الدين قاله لي جبريل آنفاً‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لأكفرن عنهم سيئاتهم ولادخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏}‏ أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ثواباً من عند اللّه‏}‏ أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً كما قال الشاعر‏:‏

إن يعذب يكن غراماً وإن يع * ط جزيلاً فإنه لا يبالي

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّه عنده حسن الثواب‏}‏ أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً‏.‏

 الآية رقم ‏(‏196 ‏:‏ 198‏)‏

‏{‏ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ‏.‏ متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ‏.‏ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ‏}

ومعناه‏:‏ لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور، فعما قليل يزول هذا كله عنهم، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجاً، وجميع ما هم فيه ‏{‏متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏ وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يجادل في آيات اللّه إلا الذين كفروا فلا يغرنك تقلبهم في البلاد‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فمهل الكافرين أمهلهم رويدا‏}‏ أي قليلاً وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين‏}‏‏؟‏ وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآالهم إلى النار قال بعده‏:‏ ‏{‏لمن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند اللّه وما عند اللّه خير للأبرار‏}‏ عن عبد اللّه بن عمروا قال‏:‏ إنما سمّاهم الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء، كما أن لوالديك عليك حقاً، كذلك لولدك عليك حق وعن أبي الدرداء أنه كان يقول‏:‏ ما من مؤمن إلا والموت خير له، وما من كافر إلا والموت خير له، ومن لم يصدقني فإن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏وما عند اللّه خير للأبرار‏}‏ ويقول‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير أنفسهم، إنما نملي لهم يزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير‏"‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏199 ‏:‏ 200‏)

‏{‏ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ‏.‏ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ‏}‏

يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون باللّه حق الإيمان، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة، وأنهم خاشعون للّه أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه، لا يشترون بآيات اللّه ثمناً قليلاً أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفته أمته، وهؤلاء ثم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هوداً أو نصارى، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به‏}‏ الآية‏.‏ وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‏}‏، وقال تعالى ‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا‏}‏ وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاًن كما وجد في عبد اللّه بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس، وأما النصارى فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى‏}‏، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأثابهم اللّه بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها‏}‏ الآية‏.‏ وهكذا قال ههنا‏:‏ ‏{‏أولئك لهم أجرهم عند ربهم‏}‏ الآية‏.‏

وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه لما قرأ سورة ‏{‏كهيعص‏}‏ بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعند البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أصحابه، وقال‏:‏ ‏{‏إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلّوا عليه‏(‏ فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه، وروى ابن أبي حاتم، عن أنَس بن مالك قال‏:‏ لما توفي النجاشي، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏استغفرا لأخيكم‏)‏، فقال بعض الناس‏:‏ يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة، فنزلت‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه‏}‏ الآية‏.‏ وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب‏}‏ يعني مسلمة أهل الكتاب، وقال عباد بن منصور‏:‏ سألت الحسن البصري عن قول اللّه‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه‏}‏ الآية قال‏:‏ هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم اللّه تعالى أجر اثنين، للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى اللّه عليه وسلم، واتباعهم محمداً صلى اللّه عليه وسلم ‏.‏

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين‏)‏ فذكر منهم رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يشترون بآيات اللّه ثمناً قليلاً‏}‏ أي لا يكتمون ما بأيديدهم من العلم كما فعلته الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك مجاناً، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن اللّه سريع الحساب‏}‏ قال مجاهد‏:‏ سريع الحساب يعني سريع الإحصاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا‏}‏ قال الحسن البصري‏:‏ أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه اللّه لهم وهو الإسلام، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء، حتى يموتوا مسلمين، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم، وكذلك قال غير واحد من علماء السلف، وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل‏:‏ انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس ويشهد له حديث‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بما يمحوا اللّه به الخطايا ويرفع به الدرجات‏!‏‏!‏ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرابط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط‏)‏ ‏"‏رواه مسلم والنسائي‏"‏وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال‏:‏ أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال‏:‏ أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية‏؟‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا‏}‏ قلت‏:‏ لا، قال‏:‏ أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم غزو يرابطون فيه، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها، ثم يذكرون اللّه فيها فعليهم أنزلت‏:‏ ‏{‏اصبروا‏}‏ أي على الصلوات الخمس، ‏{‏وصابروا‏}‏ أنفسكم وهواكم، ‏{‏ورابطوا‏}‏ في مساجدكم، ‏{‏واتقوا اللّه‏}‏ فيما عليكم ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏

وعن جابر بن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ألا أدلكم على ما يمحو اللّه به الخطايا ويكفر به الذنوب‏؟‏‏)‏ قلنا‏:‏ بلى، يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط‏)‏ ‏"‏أخرجه ابن مردويه والحاكم‏"‏وقيل‏:‏ المراد بالمرابطة ههنا مرابطة الغزو في نحور العدو، وحفظ ثغور الإسلام، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما عليها‏)

حديث آخر‏:‏ روى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان‏)‏

حديث آخر‏:‏ قال صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏كل ميت يختم له على عمله إلا المرابط في سبيل اللّه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر‏"‏‏.‏

حديث آخر‏:‏ عن أبي هريرة، عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من مات مرابطاً في سبيل اللّه أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن من الفتان وبعثه اللّه يوم القيامة آمناً من الفزع الأكبر‏)‏ ‏"‏رواه ابن ماجة في سننه‏"‏

طريق آُخرىقال الإمام أحمد، عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من مات مرابطاً وقي فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر وغدا عليه ريح برزقه من الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة‏)‏

طريق أُخرى‏:‏ قال الترمذي، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان، قال‏:‏ سمعت عثمان وهو على المنبر يقول إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏رباط يوم في سبيل اللّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل‏)

حديث آخر‏:‏ قال الترمذي‏:‏ مرّ سلمان الفارسي بشرحبيل بن الصمت وهو في مرابطة له وقد شق عليه وعلى اصحابه فقال‏:‏ ألا أحدثك يا ابن الصمت بحديث سمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ قال‏:‏ بلى، قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏رباط يوم في سبيل اللّه أفضل - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونمي له عمله إلى يوم القيامة‏)

حديث آخر‏:‏ قال أبو داود‏:‏ عن سهل بن الحنظلة أنهم ساروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين حتى كانت عشية، فحضرت الصلاة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال‏:‏ يا رسول اللّه إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم، فتبسم النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء اللّه‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏من يحرسنا الليلة‏)‏‏؟‏ قال أنَس بن أبي مرثد‏:‏ أنا يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏فاركب‏)‏، فركب فرساً، فجاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تغز من قبلك الليلة‏)‏ فلما أصبحنا خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعيتين، فقال‏:‏ ‏(‏هل أحسستم فارسكم‏؟‏‏)‏، فقال رجل‏:‏ يا رسول اللّه ما أحسسناه، فثوّب بالصلاة، فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى صلاته، قال‏:‏ ‏(‏أبشروا فقد جاءكم فارسكم‏)‏، فجعلنا ننظر في خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء، حتى وقف على النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني، فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحداً، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏هل نزلت الليلة‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ لا، إلا مصلياً أو قاضي حاجة، فقال له‏:‏ ‏(‏أوجبتَ فلا عليك أن لا تعمل بعدها‏)‏ ‏"‏أخرجه أبو داود والنسائي في السنن‏"‏

حديث آخر‏:‏ قال الإمام أحمد بسنده عن أبي ريحانة، قال‏:‏ كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في غزوة فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه، فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض يدخل فيها ويلقي عليه الحجفة يعني الترس فلما رأى ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الناس نادى‏:‏ ‏(‏من يحرسنا هذه الليلة فأدعوا له بدعاء يكون له فيه فضل‏؟‏‏)‏ فقال رجل من الأنصار‏:‏ أنا يا رسول اللّه، قال‏:‏ ‏(‏ادن‏)‏ فدنا منه، فقال‏:‏ ‏(‏من أنت‏)‏‏؟‏ فتسمى له الأنصاري، ففتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه‏.‏ قال أبو ريحانه‏:‏ فلما سمعت ما دعا به قلت‏:‏ أنا رجل آخر، فقال‏:‏ ‏(‏ادن‏)‏، فدنوت، فقال‏:‏ ‏(‏من أنت‏)‏‏؟‏ فقال، فقلت‏:‏ أبو ريحانة، فدعا بدعاء دون ما دعا به للأنصاري، ثم قال‏:‏ ‏(‏حرمت النار على عين دمعت - أو بكت من خشية اللّه، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل اللّه‏)‏، وروى النسائي منه‏:‏ ‏(‏حرمت النار‏)‏ إلى آخره‏.‏

حديث آخر‏:‏ قال الترمذي، عن ابن عباس قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏عينان لا تَمَسُّهما النار، عين بكت من خشية اللّه، وعين باتت تحرس في سبيل اللّه‏)

حديث آخر‏:‏ روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة الخميصة‏:‏ الثوب المخطط إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش قوله فلا انتقش قال الحافظ في الفتح‏:‏ أي إذا أصابته الشوكة فلا وجد من يخرجها منه بالمنقاش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة قال ابن الجوزي‏:‏ المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو والرفعة وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع‏)‏ فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام، وللّه الحمد على جزيل الأنعام، على تعاقب الأعوام والأيام‏.‏

تنبيه‏:‏ قال ابن جرير‏:‏ كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر‏:‏ أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل اللّه له بعدها فرجاً، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللّه لعلكم تفلحون‏}‏‏.‏ وروى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال‏:‏ أملي عليَّ عبد اللّه بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة‏:‏

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا * قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي غبَّار خيل اللّه في * أنف امرىء ودخان نار تلهب

هذا كتاب اللّه ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لا يكذب

قال‏:‏ فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال‏:‏ صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال‏:‏ أنت ممن يكتب الحديث‏؟‏ قال، قلت‏:‏ نعم، قال‏:‏ فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا، وأملى عليّ الفضيل بن عياض‏:‏ حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول اللّه علِّمن عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل اللّه، فقال‏:‏ ‏(‏هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول اللّه أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات‏؟‏‏!‏ وقوله تعالى ‏{‏واتقوا اللّه‏}‏ أي في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن‏:‏ ‏(‏اتق اللّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن‏)‏، ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ أي في الدنيا والآخرة‏.‏

انتهى تفسير سورة آل عمران، وللّه الحمد والمنة، ونسأله الموت على الكتاب والسنّة آمين‏.‏